الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
*2*كِتَاب الْعِتْقِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الشرح: قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم - في العتق وفضله) كذا للأكثر، زاد ابن شبويه بعد البسملة " باب"، وزاد المستملي قبل البسملة " كتاب العتق " ولم يقل باب، وأثبتهما النسفي. والعتق بكسر المهملة إزالة الملك، يقال عتق يعتق عتقا بكسر أوله ويفتح وعتاقا وعتاقة، قال الأزهري: وهو مشتق من قولهم عتق الفرس إذا سبق وعتق الفرخ إذا طار، لأن الرقيق يتخلص بالعتق ويذهب حيث شاء. *3* وَقَوْلِهِ تَعَالَى فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ الشرح: قوله: (وقول الله تعالى: (فك رقبة) ساق إلى قوله: (مقربة) ووقع في رواية أبي ذر (أو أطعم) ولغيره (أو إطعام) وهما قراءتان مشهورتان، والمراد بفك الرقبة تخليص الشخص من الرق من تسمية الشيء باسم بعضه، وإنما خصت بالذكر إشارة إلى أن حكم السيد عليه كالغل في رقبته فإذا أعتق فك الغل من عنقه، وجاء في حديث صحيح " أن فك الرقبة مختص بمن أعان في عتقها حتى تعتق " رواه أحمد وابن حبان والحاكم من حديث البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أعتق النسمة وفك الرقبة. قيل يا رسول الله أليستا واحدة؟ قال: لا، إن عتق النسمة أن تفرد بعتقها، وفك الرقبة أن تعين في عتقها " وهو في أثناء حديث طويل أخرج الترمذي بعضه وصححه، وإذا ثبت الفضل في الإعانة على العتق ثبت الفضل في التفرد بالعتق من باب الأولى. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي وَاقِدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ صَاحِبُ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ قَالَ قَالَ لِي أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْتَقَ امْرَأً مُسْلِمًا اسْتَنْقَذَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَرْجَانَةَ فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ فَعَمَدَ عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِلَى عَبْدٍ لَهُ قَدْ أَعْطَاهُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ فَأَعْتَقَهُ الشرح: قوله: (حدثنا واقد بن محمد) أي ابن زيد بن عبد الله بن عمر أخو عاصم الذي روى عنه، وبذلك صرح الإسماعيلي من طريق معاذ العنبري عن عاصم بن محمد عن أخيه واقد. قوله: (حدثني سعيد ابن مرجانة) بفتح الميم وسكون الراء بعدها جيم وهي أمه، واسم أبيه عبد الله ويكنى سعيد أبا عثمان، وقوله: (صاحب علي بن الحسين) أي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان منقطعا إليه فعرف بصحبته، ووهم من زعم أنه سعيد بن يسار أبو الحباب فإنه غيره عند الجمهور، وليس لسعيد ابن مرجانة في البخاري غير هذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في التابعين وأثبت روايته عن أبي هريرة، ثم غفل فذكره في أتباع التابعين وقال لم يسمع من أبي هريرة ا هـ. وقد قال هنا " قال لي أبو هريرة " ووقع التصريح بسماعه منه عند مسلم والنسائي وغيرهما فانتفى ما زعمه ابن حبان. قوله: (أيما رجل) في رواية الإسماعيلي من طريق عاصم بن علي عن عاصم بن محمد " أيما مسلم " ووقع تقييده بذلك في رواية مسلم والنسائي من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد ابن مرجانة. قوله: (عضوا من النار) في رواية مسلم " عضوا منه من النار " وله من رواية علي بن الحسين عن سعيد ابن مرجانة وستأتي مختصرة للمصنف في كفارات الأيمان " أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى فرجه بفرجه " وللنسائي من حديث كعب بن مرة " وأيما امرئ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار عظمين منهما بعظم، وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من النار " إسناده صحيح، ومثله للترمذي من حديث أبي أمامة، وللطبراني من حديث عبد الرحمن بن عوف ورجاله ثقات. قوله: (قال سعيد ابن مرجانة) هو موصول بالإسناد المذكور. قوله: (فانطلقت به) أي بالحديث. وفي رواية مسلم " فانطلقت حين سمعت الحديث من أبي هريرة فذكرته لعلي " زاد أحمد وأبو عوانة من طريق إسماعيل بن أبي حكيم عن سعيد ابن مرجانة " فقال علي بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال نعم". قوله: (فعمد علي بن الحسين إلى عبد له) اسم هذا العبد مطرف، وقع ذلك في رواية إسماعيل بن أبي حكيم المذكورة عند أحمد وأبي عوانة وأبي نعيم في مستخرجيهما على مسلم، وقوله: " عبد الله عن ابن جعفر " أي ابن أبي طالب وهو ابن عم والد علي بن الحسين وكانت وفاته سنة ثمانين من الهجرة، ومات سعيد ابن مرجانة سنة سبع وتسعين ومات علي بن الحسين قبله بثلاث أو أربع، وروايته عنه من رواية الأقران، وقوله: " عشرة آلاف درهم أو ألف دينار " شك من الراوي، وفيه إشارة إلى أن الدينار إذ ذاك كان بعشرة دراهم، وقد رواه الإسماعيلي من رواية عاصم بن علي فقال: " عشرة آلاف درهم " بغير شك. قوله: (فأعتقه) في رواية إسماعيل المذكورة " فقال اذهب أنت حر لوجه الله " وفي الحديث فضل العتق، وأن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى خلافا لمن فضل عتق الأنثى محتجا بأن عتقها يستدعي صيرورة ولدها حرا سواء تزوجها حر أو عبد بخلاف الذكر، ومقابله في الفضل أن عتق الأنثى غالبا يستلزم ضياعها، ولأن في عتق الذكر من المعاني العامة ما ليس في الأنثى كصلاحيته للقضاء وغيره مما يصلح للذكور دون الإناث. وفي قوله: " أعتق الله بكل عضو منه عضوا " إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يكون في الرقبة نقصان ليحصل الاستيعاب، وأشار الخطابي إلى أنه يغتفر النقص المجبور بمنفعة كالخصي مثلا إذا كان ينتفع به فيما لا ينتفع بالفحل، وما قاله في مقام المنع، وقد استنكره النووي وغيره وقال: لا شك أن في عتق الخصي وكل ناقص فضيلة، لكن الكامل أولى. وقال ابن المنير: فيه إشارة إلى أنه ينبغي في الرقبة التي تكون للكفارة أن تكون مؤمنة، لأن الكفارة منقذة من النار فينبغي أن لا تقع إلا بمنقذة من النار. واستشكل ابن العربي قوله: " فرجه بفرجه " لأن الفرج لا يتعلق به ذنب يوجب له النار إلا الزنا، فإن حمل على ما يتعاطاه من الصغائر كالمفاخذة لم يشكل عتقه من النار بالعتق، وإلا فالزنا كبيرة لا تكفر إلا بالتوبة، ثم قال: فيحتمل أن يكون المراد أن العتق يرجح عند الموازنة بحيث يكون مرجحا لحسنات المعتق ترجيحا يوازي سيئة الزنا ا هـ. ولا اختصاص لذلك بالفرج، بل يأتي في غيره من الأعضاء مما آثاره فيه كاليد في الغصب مثلا. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب أي الرقاب أفضل) أي للعتق. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ قَالَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ قُلْتُ فَأَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ قَالَ أَعْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا قُلْتُ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ تُعِينُ ضَايِعًا أَوْ تَصْنَعُ لِأَخْرَقَ قَالَ فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ قَالَ تَدَعُ النَّاسَ مِنْ الشَّرِّ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقُ بِهَا عَلَى نَفْسِكَ الشرح: قوله: (حدثنا عبيد الله بن موسى عن هشام بن عروة) هذا من أعلى حـديث وقع في البخاري، وهو في حكم الثلاثيات، لأن هشام بن عروة شيخ شيخه من التابعين وإن كان هنا روى عن تابعي آخر وهو أبوه، وقد رواه الحارث بن أسامة عن عبيد الله بن موسى فقال: " أخبرنا هشام بن عروة " أخرجه أبو نعيم في " المستخرج". قوله: (عن أبيه) أي رواية النسائي من طريق يحيى القطان " عن هشام حدثني أبي". قوله: (عن أبي مراوح) بضم الميم بعدها راء خفيفة وكسر الواو بعدها مهملة، زاد مسلم من طريق حماد بن زيد " عن هشام الليثي " ويقال له أيضا الغفاري، وهو مدني من كبار التابعين لا يعرف اسمه، وشذ من قال اسمه سعد، قال الحاكم أبو أحمد: أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره. قلت: وما له في البخاري سوى هذا الحديث، ورجاله كلهم مدنيون إلا شيخه. وفي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق. وقد أخرجه مسلم من رواية الزهري عن حبيب مولى عروة عن عروة فصار في الإسناد أربعة من التابعين. وفي الصحابة أبو مراوح الليثي غير هذا سماه ابن منده واقدا وعزاه لأبي داود، ووقع في رواية الإسماعيلي من طريق يحيى بن سعيد عن هشام أخبرني أبي أن أبا مراوح أخبره، وذكر الإسماعيلي عددا كثيرا نحو العشرين نفسا رووه عن هشام بهذا الإسناد، وخالفهم مالك فأرسله في المشهور عنه عن هشام عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه يحيى بن يحيى الليثي وطائفة عنه عن هشام عن أبيه عن عائشة، ورواه سعيد بن داود عنه عن هشام كرواية الجماعة، قال الدار قطني: الرواية المرسلة عن مالك أصح، والمحفوظ عن هشام كما قال الجماعة. قوله: (عن أبي ذر) في رواية يحيى بن سعيد المذكورة " أن أبا ذر أخبره". قوله: (قال أعلاها) بالعين المهملة للأكثر وهي رواية النسائي أيضا، وللكشميهني بالغين المعجمة وكذا للنسفي، قال ابن قرقول: معناهما متقارب. قلت: وقع لمسلم من طريق حماد بن زيد عن هشام " أكثرها ثمنا " وهو يبين المراد، قال النووي: محله والله أعلم فيمن أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما لو كان مع شخص ألف درهم مثلا فأراد أن يشتري بها رقبة يعتقها فوجد رقبة نفيسة أو رقبتين مفضولتين فالرقبتان أفضل، قال: وهذا بخلاف الأضحية فإن الواحدة السمينة فيها أفضل، لأن المطلوب هنا فك الرقبة وهناك طيب اللحم ا هـ. والذي يظهر أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص، فرب شخص واحد إذا أعتق انتفع بالعتق وانتفع به أضعاف ما يحصل من النفع بعتق أكثر عددا منه، ورب محتاج إلى كثرة اللحم لتفرقته على المحاويج الذين ينتفعون به أكثر مما ينتفع هو بطيب اللحم، فالضابط أن مهما كان أكثر نفعا كان أفضل سواء قل أو كثر، واحتج به لمالك في أن عتق الرقبة الكافرة إذا كانت أغلى ثمنا من المسلمة أفضل، وخالفه أصبغ وغيره وقالوا: المراد بقوله أغلى ثمنا من المسلمين، وقد تقدم تقييده بذلك في الحديث الأول. قوله: (وأنفسها عند أهلها) أي ما اغتباطهم بها أشد، فإن عتق مثل ذلك ما يقع غالبا إلا خالصا وهو كقوله تعالى: قوله: (قلت فإن لم أفعل) في رواية الإسماعيلي " أرأيت إن لم أفعل " أي إن لم أقدر على ذلك، أطلق الفعل وأراد القدرة. وللدار قطني في " الغرائب " بلفظ " فإن لم أستطع". قوله: (تعين ضائعا) بالضاد المعجمة وبعد الألف تحتانية لجميع الرواة في البخاري كما جزم به عياض وغيره، وكذا هو في مسلم، إلا في رواية السمرقندي كما قاله عياض أيضا، وجزم الدار قطني وغيره بأن هشاما رواه هكذا دون من رواه عن أبيه. وقال أبو علي الصدفي ونقلته من خطه: رواه هشام بن عروة بالضاد المعجمة والتحتانية، والصواب بالمهملة والنون كما قاله الزهري. وإذا تقرر هذا فقد خبط من قال من شراح البخاري إنه روي بالصاد المهملة والنون، فإن هذه الرواية لم تقع في شيء من طرقه، وروى الدار قطني من طريق معمر عن هشام هذا الحديث بالضاد المعجمة، قال معمر: كان الزهري يقول صحف هشام وإنما هو بالصاد المهملة والنون. قال الدار قطني: وهو الصواب لمقابلته بالأخرق وهو الذي ليس بصانع ولا يحسن العمل. وقال علي بن المديني: يقولون إن هشاما صحف فيه ا هـ. ورواية معمر عن الزهري عند مسلم كما تقدم وهي بالمهملة والنون، وعكس السمرقندي فيها أيضا كما نقله عياض، وقد وجهت رواية هشام بأن المراد بالضائع ذو الضياع من فقر أو عيال فيرجع إلى معنى الأول، قال أهل اللغة: رجل أخرق لا صنعة له والجمع خرق بضم ثم سكون، وامرأة خرقاء كذلك، ورجل صانع وصنع بفتحتين وامرأة صناع بزيادة ألف. قوله: (فإن لم أفعل) أي من الصناعة أو الإعانة، ووقع في رواية الدار قطني في " الغرائب ": " أرأيت أن ضعفت " وهو يشعر بأن قوله إن لم أفعل أي للعجز عن ذلك لا كسلا مثلا. قوله: (تدع الناس من الشر) فيه دليل على أن الكف عن الشر داخل في فعل الإنسان وكسبه حتى يؤجر عليه ويعاقب، غير أن الثواب لا يحصل مع الكف إلا مع النية والقصد لا مع الغفلة والذهول قاله القرطبي ملخصا. قوله: (فإنها صدقة تصدق) بفتح المثناة والصاد المهملة الخفيفة على حذف إحدى التاءين والأصل تتصدق ويجوز تشديدها على الإدغام. وفي الحديث أن الجهاد أفضل الأعمال بعد الإيمان، قال ابن حبان: الواو في حديث أبي ذر هذا بمعنى ثم، وهو كذلك في حديث أبي هريرة أي المتقدم في " باب من قال إن الإيمان هو العمل " وقد تقدم الكلام فيه على طريق الجمع بين ما اختلف من الروايات في أفضل الأعمال هناك، وقيل قرن الجهاد بالإيمان هنا لأنه كان إذ ذاك أفضل الأعمال. وقال القرطبي: تفضيل الجهاد في حال تعينه، وفضل بر الوالدين لمن يكون له أبوان فلا يجاهد إلا بإذنهما، وحاصله أن الأجوبة اختلفت باختلاف أحوال السائلين. وفي الحديث حسن المراجعة في السؤال، وصبر المفتي والمعلم على التلميذ ورفقه به، وقد روى ابن حبان والطبري وغيرهما من طريق أبي إدريس الخولاني وغيره عن أبي ذر حدثنا حديثا طويلا فيه أسئلة كثيرة وأجوبتها تشتمل على فوائد كثيرة: منها سؤاله عن أي المؤمنين أكمل وأي المسلمين أسلم وأي الهجرة والجهاد والصدقة والصلاة أفضل، وفيه ذكر الأنبياء وعددهم وما أنزل عليهم، وآداب كثيرة من أوامر ونواهي وغير ذلك، قال ابن المنير: وفي الحديث إشارة إلى أن إعانة الصانع أفضل من إعانة غير الصانع لأن غير الصانع مظنة الإعانة فكل أحد يعينه غالبا، بخلاف الصانع فإنه لشهرته بصنعته يغفل عن إعانته، فهي من جنس الصدقة على المستور. *3* الشرح: قوله: (باب ما يستحب من العتاقة) بفتح العين ووهم من كسرها، يقال عتق يعتق عتاقا وعتاقة والمراد الإعتاق وهو ملزوم العتاقة. قوله: (في الكسوف أو الآيات) كذا لأبي ذر وأبي شبويه وأبي الوقت وللباقين " والآيات " بغير ألف، و " أو " للتنويع لا للشك؛ وقال الكرماني هي بمعنى الواو وبمعنى بل لأن عطف الآيات على الكسوف من عطف العام على الخاص، وليس في حديث الباب سوى الكسوف، وكأنه أشار إلى قوله في بعض طرقه " إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده " وأكثر ما يقع التخويف بالنار فناسب وقوع العتق الذي يعتق من النار، لكن يختص الكسوف بالصلاة المشروعة بخلاف بقية الآيات. الحديث: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَنَا زَائِدَةُ بْنُ قُدَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَتَاقَةِ فِي كُسُوفِ الشَّمْسِ تَابَعَهُ عَلِيٌّ عَنْ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ هِشَامٍ الشرح: قوله: (حدثنا موسى بن مسعود) وهو أبو حذيفة النهدي بفتح النون مشهور بكنيته أكثر من اسمه، وقد تقدم الحديث في الكسوف عن راو آخر عن شيخه زائدة. قوله: (تابعه علي) يعني ابن المديني وهو شيخ البخاري، ووهم من قال المراد به ابن حجر، والدراوردي هو عبد العزيز بن محمد. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا عَثَّامٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ كُنَّا نُؤْمَرُ عِنْدَ الْخُسُوفِ بِالْعَتَاقَةِ الشرح: قوله: (حدثنا محمد بن أبي بكر) هو المقدمي، وعثام بفتح المهملة وتشديد المثلثة هو ابن علي بن الوليد العامري الكوفي ما له في البخاري سوى هذا الحديث الواحد، وهشام هو ابن عروة، وفاطمة زوجته وهي ابنة عمه، وهذا الحديث مختصر من حديث طويل، وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في موضعه وتبين برواية زائدة أن الآمر في رواية عثام هو النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو مما يقوي أن قول الصحابي " كنا نؤمر بكذا " في حكم المرفوع. *3* الشرح: قوله: (باب إذا أعتق عبدا بين اثنين أو أمة بين الشركاء) قال ابن التين: أراد أن العبد كالأمة لاشتراكهما في الرق قال: وقد بين في حديث ابن عمر في آخر الباب أنه كان يفتي فيهما بذلك انتهى، وكأنه أشار إلى رد قول إسحاق بن راهويه: إن هذا الحكم مختص بالذكور وهو خطأ، وادعى ابن حزم أن لفظ العبد في اللغة يتناول الأمة وفيه نظر، ولعله أراد المملوك. وقال القرطبي: العبد اسم للمملوك الذكر بأصل وضعه، والأمة اسم لمؤنثه بغير لفظه، ومن ثم قال إسحاق: إن هذا الحكم لا يتناول الأنثى، وخالفه الجمهور فلم يفرقوا في الحكم بين الذكر والأنثى إما لأن لفظ العبد يراد به الجنس كقوله تعالى: (إلا آتى الرحمن عبدا) فإنه يتناول الذكر والأنثى قطعا، وإما على طريق الإلحاق لعدم الفارق، قال: وحديث ابن عمر من طريق موسى بن عقبة عن نافع عنه " أنه كان يفتي في العبد والأمة يكون بين الشركاء " الحديث، وقد قال في آخره " يخبر ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم " فظاهره أن الجميع مرفوع، وقد رواه الدار قطني من طريق الزهري عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان له شرك في عبد أو أمة " الحديث، وهذا أصرح ما وجدته في ذلك، ومثله ما أخرجه الطحاوي من طريق ابن إسحاق عن نافع مثله وقال فيه: حمل عليه ما بقي في ماله حتى يعتق كله، وقد قال إمام الحرمين: إدراك كون الأمة في هذا الحكم كالعبد حاصل للسامع قبل التفطن لوجه الجمع والفرق، والله أعلم. قلت: وقد فرق بينهما عثمان الليثي بمأخذ آخر فقال: ينفذ عتق الشريك في جميعه ولا شيء عليه لشريكه إلا أن تكون الأمة جميلة تراد للوطء فيضمن ما أدخل على شريكه فيها من الضرر، قال النووي: قول إسحاق شاذ، وقول عثمان فاسد ا هـ. وإنما قيد المصنف العبد باثنين والأمة بالشركاء اتباعا للفظ الحديث الوارد فيهما، وإلا فالحكم في الجميع سواء. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا قُوِّمَ عَلَيْهِ ثُمَّ يُعْتَقُ الشرح: قوله: (عن عمرو) هو ابن دينار وسالم هو ابن عبد الله بن عمر، ووقع في رواية الحميدي عن سفيان " حدثنا عمرو بن دينار". قوله: (عن سالم) و ابن عبد الله بن عمر، وللنسائي من طريق إسحاق بن راهويه عن سفيان عن عمرو أنه " سمع سالم بن عبد الله بن عمر". قوله: (من أعتق) ظاهره العموم، لكنه مخصوص بالاتفاق فلا يصح من المجنون ولا من المحجور عليه لسفه، وفي المحجور عليه بفلس والعبد والمريض مرض الموت والكافر تفاصيل للعلماء بحسب ما يظهر عندهم من أدلة التخصيص، ولا يقوم في مرض الموت عند الشافعية إلا إذا وسعه الثلث. وقال أحمد: لا يقوم في المرض مطلقا وسيأتي البحث في عتق الكافر قريبا، وخرج بقوله: " أعتق " ما إذا أعتق عليه بأن ورث بعض من يعتق عليه بقرابة فلا سراية عند الجمهور، وعن أحمد رواية، وكذلك لو عجز المكاتب بعد أن اشترى شقصا يعتق على سيده فإن الملك والعتق يحصلان بغير فعل السيد فهو كالإرث، ويدخل في الاختيار ما إذا أكره بحق، لو أوصى بعتق نصيبه من المشترك أو بعتق جزء ممن له كله لم يسر عند الجمهور أيضا لأن المال ينتقل للوارث ويصير الميت معسرا، وعن المالكية رواية، وحجة الجمهور مع مفهوم الخبر أن السراية على خلاف القياس فيختص بمورد النص، ولأن التقويم سبيله سيل غرامة المتلفات فيقتضي التخصيص بصدور أمر يجعل إتلافا، ثم ظاهر قوله: " من أعتق " وقوع العتق منجزا، وأجرى الجمهور المعلق بصفة إذا وجدت مجرى المنجز. قوله: (عبدا بين اثنين) هو كالمثال وإلا فلا فرق بين أن يكون بين اثنين أو أكثر. وفي رواية مالك وغيره في الباب " شركا " وهو بكسر المعجمة وسكون الراء. وفي رواية أيوب الماضية في الشركة " شقصا " بمعجمة وقاف مهملة وزن الأول. وفي رواية في الباب " نصيبا " والكل بمعنى، إلا أن ابن دريد قال: هو القليل والكثير. وقال القزاز: لا يكون الشقص إلا كذلك، والشرك في الأصل مصدر أطلق على متعلقه وهو العبد المشترك، ولا بد في السياق من إضمار جزء أو ما أشبهه لأن المشترك هو الجملة أو الجزء المعين منها، وظاهره العموم في كل رقيق لكن يستثنى الجاني والمرهون ففيه خلاف، والأصح في الرهن والجناية منع السراية لأن فيها إبطال حق المرتهن والمجني عليه، فلو أعتق مشتركا بعد أن كاتباه فإن كان لفظ العبد يتناول المكاتب وقعت السراية وإلا فلا، ولا يكفي ثبوت أحكام الرق عليه، فقد ثبتت ولا يستلزم استعمال لفظ العبد عليه، ومثله ما لو دبراه، لكن تناول لفظ العبد للمدبر أقوى من المكاتب فيسري هنا على الأصح، فلو أعتق من أمة ثبت كونها أم ولد لشريكه فلا سراية لأنها تستلزم النقل من مالك إلى مالك، وأم الولد لا تقبل ذلك عند من لا يرى بيعها وهو أصح قولي العلماء. قوله: (فإن كان موسرا قوم) ظاهره اعتبار ذلك حال العتق، حتى لو كان معسرا ثم أيسر بعد ذلك لم يتغير الحكم، ومفهومه أنه إن كان معسرا لم يقوم، وقد أفصح بذلك في رواية مالك حيث قال فيها: " وإلا فقد عتق منه ما عتق " ويبقى ما لم يعتق على حكمه الأول، هذا الذي يفهم من هذا السياق وهو السكوت عن الحكم بعد هذا الإبقاء، وسيأتي البحث في ذلك في الكلام على حديث الباب الذي يليه. قوله: (قوم عليه) بضم أوله، زاد مسلم والنسائي في روايتهما من هذا الوجه " في ماله قيمة عدل لا وكس ولا شطط " والوكس بفتح الواو وسكون الكاف بعدها مهملة النقص، والشطط بمعجمة ثم مهملة مكررة والفتح الجور، واتفق من قال من العلماء على أنه يباع في حصة شريكه جميع ما يباع عليه في الدين على اختلاف عندهم في ذلك، ولو كان عليه دين بقدر ما يملكه كان في حكم الموسر على أصح قولي العلماء، وهو كالخلاف في أن الدين هل يمنع الزكاة أم لا، ووقع في رواية الشافعي والحميدي " فإنه يقوم عليه بأعلى القيمة أو قيمة عدل " وهو شك من سفيان، وقد رواه أكثر أصحابه عنه بلفظ " قوم عليه قيمة عدل " وهو الصواب. قوله: (ثم يعتق) في رواية مسلم " ثم أعتق عليه من ماله إن كان موسرا " وهو يشعر بأن التاء في حديث الباب مفتوحة مع ضم أوله. (تنبيه) : روى الزهري عن سالم هذا الحديث مختصرا أيضا، أخرجه مسلم بلفظ " من أعتق شركا له في عبد عتق ما بقي في ماله إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد " وذكر الخطيب قوله: " إذا كان له مال يبلغ ثمن العبد " في المدرج، وقد وقعت هذه الزيادة في رواية نافع كما سيأتي. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأَعْطَى شُرَكَاءَهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ الشرح: قوله في طريق مالك عن نافع (وكان له ما يبلغ) أي شيء يبلغ، وعند الكشميهني " مال يبلغ " وهي رواية " الموطأ " والتقييد بقوله: " يبلغ " يخرج ما إذا كان له مال لكنه لا يبلغ قيمة النصيب، وظاهره أنه في هذه الصورة لا يقوم عليه مطلقا، لكن الأصح عند الشافعية - وهو مذهب مالك - أنه يسري إلى القدر الذي هو موسر به تنفيذا للعتق بحسب الإمكان. قوله: (ثمن العبد) أي ثمن بقية العبد، لأنه موسر بحصته، وقد أوضح ذلك النسائي في روايته من طريق زيد بن أبي أنيسة عن عبيد الله بن عمر وعمر بن نافع ومحمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر بلفظ " وله مال يبلغ قيمة أنصباء شركائه فإنه يضمن لشركائه أنصباءهم ويعتق العبد " والمراد بالثمن هنا القيمة، لأن الثمن ما اشتريت به العين، واللازم هنا القيمة لا الثمن، وقد تبين المراد في رواية زيد بن أبي أنيسة المذكورة، ويأتي في رواية أيوب في هذا الباب بلفظ " ما يبلغ قيمته بقيمة عدل". قوله: (فأعطى شركاءه) كذا للأكثر على البناء للفاعل وشركاءه بالنصب، ولبعضهم " فأعطي " على البناء للمفعول وشركاؤه بالضم، وقوله: " حصصهم " أي قيمة حصصهم أي إن كان له شركاء فإن كان له شريك أعطاه جميع الباقي، وهذا لا خلاف فيه فلو كان مشتركا بين الثلاثة فأعتق أحدهم حصته وهي الثلث والثاني حصته وهي السدس فهل يقوم عليهما نصيب صاحب النصف بالسوية أو على قدر الحصص؟ الجمهور على الثاني، وعند المالكية والحنابلة خلاف كالخلاف في الشفعة إذا كانت لاثنين هل يأخذان بالسوية أو على قدر الملك؟ . قوله: (عتق منه ما عتق) قال الداودي هو بفتح العين من الأول ويجوز الفتح والضم في الثاني، وتعقبه ابن التين بأنه لم يقله غيره، وإنما يقال عتق بالفتح وأعتق بضم الهمزة، ولا يعرف عتق بضم أوله لأن الفعل لازم غير متعد. الحديث: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ فَعَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلُّهُ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ قِيمَةَ عَدْلٍ فَأُعْتِقَ مِنْهُ مَا أَعْتَقَ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ اخْتَصَرَهُ الشرح: قوله (عن أبي أسامة عن عبيد الله) هو ابن عمر العمري. قوله: (عتقه كله) بجر اللام تأكيدا للضمير المضاف أي عتق العبد كله. قوله: (فإن لم يكن له مال يقوم عليه قيمة عدل على المعتق) هكذا في هذه الرواية، وظاهرها أن التقويم يشرع في حق من لم يكن له مال، وليس كذلك بل قوله: " يقوم " ليس جوابا للشرط بل هو صفة من له المال، والمعنى أن من لا مال له بحيث يقع عليه اسم التقويم فإن العتق يقع في نصيبه خاصة، وجواب الشرط هو قوله: " فأعتق منه ما أعتق " والتقدير فقد أعتق منه ما أعتق، وقد وقع في رواية أبي بكر وعثمان ابني أبي شيبة عن أبي أسامة عند الإسماعيلي بلفظ " فإن لم يكن له مال يقوم عليه قيمة عدل عتق منه ما عتق " وأوضح من ذلك رواية خالد بن الحارث عن عبيد الله عند النسائي بلفظ " فإن كان له مال قوم عليه قيمة عدل في ماله، فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق". قوله: (حدثنا مسدد حدثنا بشر) أي ابن المفضل (عن عبيد الله) أي ابن عمر. قوله: (اختصره) أي بالإسناد المذكور، وقد أخرجه مسدد في مسنده برواية معاذ بن المثنى عنه بهذا الإسناد، وأخرجه البيهقي من طريقه ولفظه " من أعتق شركا له في مملوك فقد عتق كله " وقد رواه غير مسدد عن بشر مطولا أخرجه النسائي عن عمرو بن علي عن بشر لكن ليس فيه أيضا قوله: " عتق منه ما عتق " فيحتمل أن يكون مراده أنه اختصر هذا القدر، وقد فهم الإسماعيلي ذلك فقال: عامة الكوفيين رووا عن عبيد الله بن عمر في هذا الحديث حكم الموسر والمعسر معا، والبصريون لم يذكروا إلا حكم الموسر فقط. قلت: فمن الكوفيين أبو أسامة كما ترى وابن نمير عند مسلم وزهير عند النسائي وعيسى بن يونس عند أبي داود ومحمد بن عبيد عند أبي عوانة وأحمد، ومن البصريين بشر المذكور وخالد بن الحارث ويحيى القطان عند النسائي وعبد الأعلى فيما ذكر الإسماعيلي، لكن رواه النسائي من طريق زائدة عن عبيد الله وقال في آخره: " فإن لم يكن له مال عتق منه ما عتق " وزائدة كوفي لكنه وافق البصريين. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا لَهُ فِي مَمْلُوكٍ أَوْ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ وَكَانَ لَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ قِيمَتَهُ بِقِيمَةِ الْعَدْلِ فَهُوَ عَتِيقٌ قَالَ نَافِعٌ وَإِلَّا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ قَالَ أَيُّوبُ لَا أَدْرِي أَشَيْءٌ قَالَهُ نَافِعٌ أَوْ شَيْءٌ فِي الْحَدِيثِ الشرح: قوله: (أو شركا له في عبد) الشك فيه من أيوب، وقد سبق في الشركة من وجه آخر عنه فقال فيه: " أو قال نصيبا". قوله: (فهو عتيق) أي معتق بضم أوله وفتح المثناة. قوله: (قال أيوب: لا أدري أشيء قاله نافع أو شيء في الحديث) هذا شك من أيوب في هذه الزيادة المتعلقة بحكم المعسر هل هي موصولة مرفوعة أو منقطعة مقطوعة، وقد رواه عبد الوهاب عن أيوب فقال في آخره: " وربما قال وإن لم يكن له مال فقد عتق منه ما عتق " وربما لم يقله، وأكثر ظني أنه شيء يقوله نافع من قبله " أخرجه النسائي، وقد وافق أيوب على الشك في رفع هذه الزيادة يحيى بن سعيد عن نافع أخرجه مسلم والنسائي ولفظ النسائي " وكان نافع يقول قال يحيى: لا أدري أشيء كان من قبله يقوله أم شيء في الحديث، فإن لم يكن عنده فقد جاز ما صنع " ورواها من وجه آخر عن يحيى فجزم بأنها عن نافع، وأدرجها في المرفوع من وجه آخر، وجزم مسلم بأن أيوب ويحيى قالا " لا ندري أهو في الحديث أو شيء قاله نافع من قبله " ولم يختلف عن مالك في وصلها ولا عن عبيد الله بن عمر، لكن اختلف عليه في إثباتها وحذفها كما تقدم، والذين أثبتوها حفاظ فإثباتها عن عبيد الله مقدم، وأثبتها أيضا جرير بن حازم كما سيأتي بعد اثني عشر بابا وإسماعيل بن أمية عند الدار قطني، وقد رجح الأئمة رواية من أثبت هذه الزيادة مرفوعة، قال الشافعي: لا أحسب عالما بالحديث يشك في أن مالكا أحفظ لحديث نافع من أيوب، لأنه كان ألزم له منه، حتى ولو استويا فشك أحدهما في شيء لم يشك فيه صاحبه كانت الحجة مع من لم يشك، ويؤيد ذلك قول عثمان الدارمي: قلت لابن معين مالك في نافع أحب إليك أو أيوب؟ قال: مالك. وسأذكر ثمرة الخلاف في رفع هذه الزيادة أو وقفها في الكلام على حديث أبي هريرة في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مِقْدَامٍ حَدَّثَنَا الْفُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي فِي الْعَبْدِ أَوْ الْأَمَةِ يَكُونُ بَيْنَ شُرَكَاءَ فَيُعْتِقُ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ مِنْهُ يَقُولُ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ عِتْقُهُ كُلِّهِ إِذَا كَانَ لِلَّذِي أَعْتَقَ مِنْ الْمَالِ مَا يَبْلُغُ يُقَوَّمُ مِنْ مَالِهِ قِيمَةَ الْعَدْلِ وَيُدْفَعُ إِلَى الشُّرَكَاءِ أَنْصِبَاؤُهُمْ وَيُخَلَّى سَبِيلُ الْمُعْتَقِ يُخْبِرُ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَاهُ اللَّيْثُ وَابْنُ أَبِي ذِئْبٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ وَجُوَيْرِيَةُ وَيَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْتَصَرًا الشرح: قوله: (أنه كان يفتي إلخ) كأن البخاري أورد هذه الطريق يشير بها إلى أن ابن عمر راوي الحديث أفتى بما يقتضيه ظاهره في حق الموسر ليرد بذلك على من لم يقل به، ولم يتفرد موسى بن عقبة عن نافع بهذا الإسناد بل وافقه صخر بن جويرية عن نافع، أخرجه أبو عوانة والطحاوي والدار قطني من طريقه. قوله: (ورواه الليث وابن أبي ذئب وابن إسحاق وجويرية ويحيى بن سعيد وإسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم مختصرا) يعني ولم يذكروا الجملة الأخيرة في حق المعسر وهي قوله: " فقد عتق منه ما عتق " فأما رواية الليث فقد وصلها مسلم ولم يسق لفظه، والنسائي ولفظه " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أيما مملوك كان بين شركاء فأعتق أحدهم نصيبه فإنه يقام في مال الذي أعتق قيمة عدل فيعتق إن بلغ ذلك ماله". وأما رواية ابن أبي ذئب فوصلها مسلم ولم يسق لفظها، ووصلها أبو نعيم في مستخرجه عليه ولفظه " من أعتق شركا في مملوك وكان للذي عتق مبلغ ثمنه فقد عتق كله " وأما رواية ابن إسحاق فوصلها أبو عوانة ولفظه " من أعتق شركا له في عبد مملوك فعليه نفاذه منه " وأما رواية جويرية وهو ابن أسماء فوصلها المؤلف في الشركة كما مضى، وأما رواية يحيى بن سعيد فوصلها مسلم وغيره وقد ذكرت لفظه، وأما رواية إسماعيل بن أمية فوصلها مسلم ولم يسق لفظها، وهي عند عبد الرزاق نحو رواية ابن أبي ذئب. وفي هذا الحديث دليل على أن الموسر إذا أعتق نصيبه من مملوك عتق كله قال ابن عبد البر: لا خلاف في أن التقويم لا يكون إلا على الموسر، ثم اختلفوا في وقت العتق: فقال الجمهور والشافعي في الأصح وبعض المالكية: إنه يعتق في الحال. وقال بعض الشافعية لو أعتق الشريك نصيبه بالتقويم كان لغوا ويغرم المعتق حصة نصيبه بالتقويم، وحجتهم رواية أيوب في الباب حيث قال: " من أعتق نصيبا وكان له من المال ما يبلغ قيمته فهو عتيق " وأوضح من ذلك رواية النسائي وابن حبان وغيرهما من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ " من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته " وللطحاوي من طريق ابن أبي ذئب عن نافع " فكان للذي يعتق نصيبه ما يبلغ ثمنه فهو عتيق كله، حتى لو أعسر الموسر المعتق بعد ذلك استمر العتق وبقي ذلك دينا في ذمته، ولو مات أخذ من تركته، فإن لم يخلف شيئا لم يكن للشريك شيء واستمر العتق " والمشهور عند المالكية أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة، فلو أعتق الشريك قبل أخذ القيمة نفذ عتقه، وهو أحد أقوال الشافعي، وحجتهم رواية سالم أول الباب حيث قال: " فإن كان موسرا قوم عليه ثم يعتق " والجواب أنه لا يلزم من ترتيب العتق على التقويم ترتيبه على أداء القيمة، فإن التقويم يفيد معرفة القيمة، وأما الدفع فقدر زائد على ذلك. وأما رواية مالك التي فيها " فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد " فلا تقتضي ترتيبا لسياقها بالواو. وفي الحديث حجة على ابن سيرين حيث قال: يعتق كله ويكون نصيب من لم يعتق في بيت المال، لتصريح الحديث بالتقويم على المعتق. وعلى ربيعة حيث قال: لا ينفذ عتق الجزء من موسر ولا معسر، وكأنه لم يثبت عنده الحديث. وعلى بكير بن الأشج حيث قال: إن التقويم يكون عند إرادة العتق لا بعد صدوره. وعلى أبي حنيفة حيث قال: يتخير الشريك بين أن يقوم نصيبه على المعتق أو يعتق نصيبه أو يستسعي العبد في نصيب الشريك، ويقال إنه لم يسبق إلى ذلك ولم يتابعه عليه أحد حتى ولا صاحباه، وطرد قوله في ذلك فيما لو أعتق بعض عبده فالجمهور قالوا: يعتق كله. وقال هو: يستسعي العبد في قيمة نفسه لمولاه. واستثنى الحنفية ما إذا أذن الشريك فقال لشريكه: أعتق نصيبك، قالوا فلا ضمان فيه. واستدل به على أن من أتلف شيئا من الحيوان فعليه قيمته لا مثله، ويلتحق بذلك ما لا يكال ولا يوزن عند الجمهور. وقال ابن بطال: قيل الحكمة في التقويم على الموسر أن تكمل حرية العبد لتتم شهادته وحدوده. قال: والصواب أنها لاستكمال إنقاذ المعتق من النار. قلت: وليس القول المذكور مردودا بل هو محتمل أيضا، ولعل ذلك أيضا هو الحكمة في مشروعية الاستسعاء. *3* الشرح: قوله: (باب إذا أعتق نصيبا في عبد وليس له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه، على نحو الكتابة) أشار البخاري بهذه الترجمة إلى أن المراد بقوله في حديث ابن عمر " وإلا فقد عتق منه ما عتق " أي وإلا، فإن كان المعتق لا مال له يبلغ قيمة بقية العبد فقد تنجز عتق الجزء الذي كان يملكه وبقي الجزء الذي لشريكه على ما كان عليه أولا إلى أن يستسعي العبد في تحصيل القدر الذي يخلص به باقيه من الرق إن قوي على ذلك، فإن عجز نفسه استمرت حصة الشريك موقوفة. وهو مصير منه إلى القول بصحة الحديثين جميعا والحكم برفع الزيادتين معا وهو قوله في حديث ابن عمر: " وإلا فقد عتق منه ما عتق " وقد تقدم بيان من جزم بأنها من جملة الحديث، وبيان من توقف فيها أو جزم بأنها من قول نافع. وقوله في حديث أبي هريرة " فاستسعي به غير مشقوق عليه " وسأبين من جزم بأنها من جملة الحديث ومن توقف فيها أو جزم بأنها من قول قتادة، وقد بينت ذلك في كتابي " المدرج " بأبسط مما هنا. وقد استبعد الإسماعيلي إمكان الجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة ومنع الحكم بصحتهما معا وجزم بأنهما متدافعان، وقد جمع غيره بينهما بأوجه أخر يأتي بيانها في أواخر الباب إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ سَمِعْتُ قَتَادَةَ قَالَ حَدَّثَنِي النَّضْرُ بْنُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَعْتَقَ شَقِيصًا مِنْ عَبْدٍ حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ النَّضْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ بَشِيرِ بْنِ نَهِيكٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبًا أَوْ شَقِيصًا فِي مَمْلُوكٍ فَخَلَاصُهُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا قُوِّمَ عَلَيْهِ فَاسْتُسْعِيَ بِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ تَابَعَهُ حَجَّاجُ بْنُ حَجَّاجٍ وَأَبَانُ وَمُوسَى بْنُ خَلَفٍ عَنْ قَتَادَةَ اخْتَصَرَهُ شُعْبَةُ الشرح: قوله: (جرير بن حازم سمعت قتادة) سيأتي بعد أبواب من رواية جرير بن حازم عن نافع، فله فيه طريقان، وقد حفظ الزيادة التي في كل منهما وجزم برفع كل منهما. قوله: (عن بشير بن نهيك) بفتح الموحدة وكسر المعجمة وبفتح النون وكسر الهاء وزنا واحدا. قوله: (من أعتق شقيصا من عبد) كذا أورده مختصرا وعطف عليه طريق سعيد عن قتادة، وقد تقدم في الشركة من وجه آخر عن جرير بن حازم وبقيته " أعتق كله إن كان له مال وإلا يستسعي غير مشقوق عليه " وأخرجه الإسماعيلي من طريق بشر بن السري ويحيى بن بكير جميعا عن جرير بن حازم بلفظ " من أعتق شقصا من غلام وكان للذي أعتقه من المال ما يبلغ قيمة العبد أعتق في ماله، وإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه". قوله: (حدثنا سعيد) هو ابن أبي عروبة. قوله: (عن النضر) في رواية جرير - التي قبلها - عن قتادة " حدثني النضر". قوله: (وإلا قوم عليه فاستسعي به) في رواية عيسى بن يونس عن سعيد عند مسلم " ثم يستسعي في نصيب الذي لم يعتق " الحديث. وفي رواية عبدة عند النسائي ومحمد بن بشر عند أبي داود كلاهما عن سعيد " فإن لم يكن له مال قوم ذلك العبد قيمة عدل واستسعي في قيمته لصاحبه " الحديث. قوله: (غير مشقوق عليه) تقدم توجيهه. وقال ابن التين: معناه لا يستغلي عليه في الثمن، وقيل معناه غير مكاتب وهو بعيدا جدا. وفي ثبوت الاستسعاء حجة على ابن سيرين حيث قال: يعتق نصيب الشريك الذي لم يعتق من بيت المال. قوله: (تابعه حجاج بن حجاج وأبان وموسى بن خلف عن قتادة واختصره شعبة) أراد البخاري بهذا الرد على من زعم أن الاستسعاء في هذا الحديث غير محفوظ. وأن سعيد بن أبي عروبة تفرد به، فاستظهر له برواية جرير بن حازم بموافقته، ثم ذكر ثلاثة تابعوهما على ذكرها. فأما رواية حجاج فهو في نسخة حجاج بن حجاج عن قتادة من رواية أحمد بن حفص أحد شيوخ البخاري عن أبيه عن إبراهيم بن طهمان عن حجاج وفيها ذكر السعاية، ورواه عن قتادة أيضا حجاج بن أرطاة أخرجه الطحاوي، وأما رواية أبان فأخرجها أبو داود والنسائي من طريقه قال: حدثنا قتادة أخبرنا النضر بن أنس ولفظه " فإن عليه أن يعتق بقيته إن كان له مال وإلا استسعي العبد " الحديث، ولأبي داود " فعليه أن يعتقه كله والباقي سواء " وأما رواية موسى بن خلف فوصلها الخطيب في " كتاب الفصل والوصل " من طريق أبي ظفر عبد السلام بن مظهر عنه عن قتادة عن النضر ولفظه " من أعتق شقصا له في مملوك فعليه خلاصه إن كان له مال، فإن لم يكن له مال استسعي غير مشقوق عليه " وأما رواية شعبة فأخرجها مسلم والنسائي من طريق غندر عنه عن قتادة بإسناده ولفظه " عن النبي صلى الله عليه وسلم في المملوك بين الرجلين فيعتق أحدهما نصيبه قال: يضمن"، ومن طريق معاذ عن شعبة بلفظ " من أعتق شقصا من مملوك فهو حر من ماله " وكذا أخرجه أبو عوانة من طريق الطيالسي عن شعبة وأبو داود من طريق روح عن شعبة بلفظ " من أعتق مملوكا بينه وبين آخر فعليه خلاصه " وقد اختصر ذكر السعاية أيضا هشام الدستوائي عن قتادة إلا أنه اختلف عليه في إسناده: فمنهم من ذكر فيه النضر بن أنس ومنهم من لم يذكره، وأخرجه أبو داود والنسائي بالوجهين ولفظ أبي داود والنسائي جميعا من طريق معاذ بن هشام عن أبيه " من أعتق نصيبا له في مملوك عتق من ماله إن كان له مال " ولم يختلف على هشام في هذا القدر من المتن، وغفل عبد الحق فزعم أن هشاما وشعبة ذكرا الاستسعاء فوصلاه، وتعقب ذلك عليه ابن المواق فأجاد، وبالغ ابن العربي فقال: اتفقوا على أن ذكر الاستسعاء ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول قتادة. ونقل الخلال في " العلل " عن أحمد أنه ضعف رواية سعيد في الاستسعاء، وضعفها أيضا الأثرم عن سليمان بن حرب، واستند إلى أن فائدة الاستسعاء أن لا يدخل الضرر على الشريك قال: فلو كان الاستسعاء مشروعا للزم أنه لو أعطاه مثلا كل شهر درهمين أنه يجوز ذلك، وفي ذلك غاية الضرر على الشريك ا هـ، وبمثل هذا لا ترد الأحاديث الصحيحة، قال النسائي: بلغني أن هماما رواه فجعل هذا الكلام أي الاستسعاء من قول قتادة. وقال الإسماعيلي: قوله: " ثم استسعي العبد " ليس في الخبر مسندا، وإنما هو قول قتادة مدرج في الخبر على ما رواه همام. وقال ابن المنذر والخطابي: هذا الكلام الأخير من فتيا قتادة ليس في المتن. قلت: ورواية همام قد أخرجها أبو داود عن محمد بن كثير عنه عن قتادة لكنه لم يذكر الاستسعاء أصلا ولفظه " أن رجلا أعتق شقصا من غلام، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم عتقه وغرمه بقية ثمنه " نعم رواه عبد الله بن يزيد المقرئ عن همام فذكر فيه السعاية وفصلها من الحديث المرفوع أخرجه الإسماعيلي وابن المنذر والدار قطني والخطابي والحاكم في " علوم الحديث " والبيهقي والخطيب في " الفصل والوصل " كلهم من طريقه ولفظه مثل رواية محمد بن كثير سواء وزاد " قال فكان قتادة يقول: إن لم يكن له مال استسعي العبد قال الدار قطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول ما أحسن ما رواه همام ضبطه وفصل بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين قول قتادة، هكذا جزم هؤلاء بأنه مدرج. وأبى ذلك آخرون منهم صاحبا الصحيح فصححا كون الجميع مرفوعا، وهو الذي رجحه ابن دقيق العيد وجماعة، لأن سعيد بن أبي عروبة أعرف بحديث قتادة لكثرة ملازمته له وكثرة أخذه عنه من همام وغيره، وهشام وشعبة إن كانا أحفظ من سعيد لكنهما لم ينافيا ما رواه، وإنما اقتصرا من الحديث على بعضه، وليس المجلس متحدا حتى يتوقف في زيادة سعيد، فإن ملازمة سعيد لقتادة كانت أكثر منهما فسمع منه ما لم يسمعه غيره، وهذا كله لو انفرد، وسعيد لم ينفرد، وقد قال النسائي في حديث أبي قتادة عن أبي المليح في هذا الباب بعد أن ساق الاختلاف فيه على قتادة: هشام وسعيد أثبت في قتادة من همام، وما أعل به حديث سعيد من كونه اختلط أو تفرد به مردود لأنه في الصحيحين وغيرهما من رواية من سمع منه قبل الاختلاط كيزيد بن زريع ووافقه عليه أربعة تقدم ذكرهم وآخرون معهم لا نطيل بذكرهم، وهمام هو الذي انفرد بالتفصيل، وهو الذي خالف الجميع في القدر المتفق على رفعه فإنه جعله واقعة عين وهم جعلوه حكما عاما، فدل على أنه لم يضبطه كما ينبغي. والعجب ممن طعن في رفع الاستسعاء بكون همام جعله من قول قتادة ولم يطعن فيما يدل على ترك الاستسعاء وهو قوله في حديث ابن عمر في الباب الماضي " وإلا فقد عتق منه ما عتق " بكون أيوب جعله من قول نافع كما تقدم شرحه، ففصل قول نافع من الحديث وميزه كما صنع همام سواء فلم يجعلوه مدرجا كما جعلوا حديث همام مدرجا مع كون يحيى بن سعيد وافق أيوب في ذلك وهمام لم يوافقه أحد، وقد جزم بكون حديث نافع مدرجا محمد بن وضاح وآخرون، والذي يظهر أن الحديثين صحيحان مرفوعان وفاقا لعمل صاحبي الصحيح. وقال ابن المواق: والإنصاف أن لا نوهم الجماعة بقول واحد مع احتمال أن يكون سمع قتادة يفتي به، فليس بين تحديثه به مرة وفتياه به أخرى منافاة. قلت: ويؤيد ذلك أن البيهقي أخرج من طريق الأوزاعي عن قتادة أنه أفتى بذلك، والجمع بين حديثي ابن عمر وأبي هريرة ممكن بخلاف ما جزم به الإسماعيلي، قال ابن دقيق العيد: حسبك بما اتفق عليه الشيخان فإنه أعلى درجات الصحيح، والذين لم يقولوا بالاستسعاء تعللوا في تضعيفه بتعليلات لا يمكنهم الوفاء بمثلها في المواضع التي يحتاجون إلى الاستدلال فيها بأحاديث يرد عليها مثل تلك التعليلات، وكأن البخاري خشي من الطعن في رواية سعيد بن أبي عروبة فأشار إلى ثبوتها بإشارات خفية كعادته، فإنه أخرجه من رواية يزيد بن زريع عنه وهو من أثبت الناس فيه وسمع منه قبل الاختلاط، ثم استظهر له برواية جرير بن حازم بمتابعته لينفي عنه التفرد، ثم أشار إلى أن غيرهما تابعهما ثم قال: اختصره شعبة، وكأنه جواب عن سؤال مقدر، وهو أن شعبة أحفظ الناس لحديث قتادة فكيف لم يذكر الاستسعاء، فأجاب بأن هذا لا يؤثر فيه ضعفا لأنه أورده مختصرا وغيره ساقه بتمامه، والعدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد والله أعلم. وقد وقع ذكر الاستسعاء في غير حديث أبي هريرة: أخرجه الطبراني من حديث جابر، وأخرجه البيهقي من طريق خالد بن أبي قلابة عن رجل من بني عذرة، وعمدة من ضعف حديث الاستسعاء في حديث ابن عمر قوله: " وإلا فقد عتق منه ما عتق " وقد تقدم أنه في حق المعسر وأن المفهوم من ذلك الجزء الذي لشريك المعتق باق على حكمه الأول، وليس فيه التصريح بأن يستمر رقيقا، ولا فيه التصريح بأنه يعتق كله. وقد احتج بعض من ضعف رفع الاستسعاء بزيادة وقعت في الدار قطني وغيره من طريق إسماعيل بن أمية وغيره عن نافع عن ابن عمر قال في آخره " ورق منه ما بقي " وفي إسناده إسماعيل بن مرزوق الكعبي وليس بالمشهور عن يحيى بن أيوب وفي حفظه شيء عنهم، وعلى تقدير صحتها فليس فيها أنه يستمر رقيقا، بل هي مقتضى المفهوم من رواية غيره، وحديث الاستسعاء فيه بيان الحكم بعد ذلك فللذي صحح رفعه أن يقول: معنى الحديثين أن المعسر إذا أعتق حصته لم يسر العتق في حصة شريكه بل تبقى حصة شريكه على حالها وهي الرق، ثم يستسعي في عتق بقيته فيحصل ثمن الجزء الذي لشريك سيده ويدفعه إليه ويعتق، وجعلوه في ذلك كالمكاتب، وهو الذي جزم به البخاري. والذي يظهر أنه في ذلك باختياره لقوله: " غير مشقوق عليه " فلو كان ذلك على سبيل اللزوم بأن يكلف العبد الاكتساب والطلب حتى يحصل ذلك لحصل له بذلك غاية المشقة، وهو لا يلزم في الكتابة بذلك عند الجمهور لأنها غير واجبة فهذه مثلها، وإلى هذا الجمع مال البيهقي وقال: لا يبقى بين الحديثين معارضة أصلا، وهو كما قال إلا أنه يلزم منه أن يبقى الرق في حصة الشريك إذا لم يختر العبد الاستسعاء، فيعارضه حديث أبي المليح عن أبيه " أن رجلا أعتق شقصا له من غلام فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: ليس لله شريك " وفي رواية " فأجاز عتقه " أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد قوي وأخرجه أحمد بإسناد حسن من حديث سمرة " أن رجلا أعتق شقصا له في مملوك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو كله، فليس لله شريك " ويمكن حمله على ما إذا كان المعتق غنيا أو على ما إذا كان جميعه له فأعتق بعضه، فقد روى أبو داود من طريق ملقام بن التلب عن أبيه " أن رجلا أعتق نصيبه من مملوك فلم يضمنه النبي صلى الله عليه وسلم وإسناده حسن، وهو محمول على المعسر وإلا لتعارضا. وجمع بعضهم بطريق أخرى فقال أبو عبد الملك: المراد بالاستسعاء أن العبد يستمر في حصة الذي لم يعتق رقيقا فيسعى في خدمته بقدر ما له فيه من الرق، قالوا ومعنى قوله: " غير مشقوق عليه " أي من وجه سيده المذكور فلا يكلفه من الخدمة فوق حصة الرق، لكن يرد على هذا الجمع قوله في الرواية المتقدمة " واستسعي في قيمته لصاحبه"، واحتج من أبطل الاستسعاء بحديث عمران بن حصين عند مسلم " أن رجلا أعتق ستة مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزأهم أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين وأرق أربعة " ووجه الدلالة منه أن الاستسعاء لو كان مشروعا لنجز من كل واحد منهم عتق ثلثه وأمره بالاستسعاء في بقية قيمته لورثة الميت، وأجاب من أثبت الاستسعاء بأنها واقعة عين فيحتمل أن يكون قبل مشروعية الاستسعاء، ويحتمل أن يكون الاستسعاء مشروعا إلا في هذه الصورة وهي ما إذا أعتق جميع ما ليس له أن يعتقه، وقد أخرج عبد الرزاق بإسناد رجاله ثقات عن أبي قلابة عن رجل من بني عذرة " أن رجلا منهم أعتق مملوكا له عند موته وليس له مال غيره فأعتق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثه وأمره أن يسعى في الثلثين " وهذا يعارض حديث عمران، وطريق الجمع بينهما ممكن. واحتجوا أيضا بما رواه النسائي من طريق سليمان بن موسى عن نافع عن ابن عمر بلفظ " من أعتق عبدا وله فيه شركاء وله وفاء فهو حر ويضمن نصيب شركائه بقيمته لما أساء من مشاركتهم وليس على العبد شيء، والجواب مع تسليم صحته أنه مختص بصورة اليسار لقوله فيه: " وله وفاء"، والاستسعاء إنما هو في صورة الإعسار كما تقدم فلا حجة فيه، وقد ذهب إلى الأخذ بالاستسعاء إذا كان المعتق معسرا أبو حنيفة وصاحباه والأوزاعي والثوري وإسحاق وأحمد في رواية وآخرون، ثم اختلفوا فقال الأكثر: يعتق جميعه في الحال ويستسعي العبد في تحصيل قيمة نصيب الشريك، وزاد ابن أبي ليلى فقال: ثم يرجع العبد على المعتق الأول بما أداه للشريك. وقال أبو حنيفة وحده: يتخير الشريك بين الاستسعاء وبين عتق نصيبه، وهذا يدل على أنه لا يعتق عنده ابتداء إلا النصيب الأول فقط، وهو موافق لما جنح إليه البخاري من أنه يصير كالمكاتب، وقد تقدم توجيهه، وعن عطاء يتخير الشريك بين ذلك وبين إبقاء حصته في الرق، وخالف الجميع زفر فقال: يعتق كله وتقوم حصة الشريك فتؤخذ إن كان المعتق موسرا، وترتب في ذمته إن كان معسرا.
|